صحيفة الانباء 11 فبراير 2020
العناوين الرئيسية:
- العجز المقدر الوارد في الموازنة والبالغ 9.2 مليار دينار والكيفية التي سيتم معالجة هذا العجز سبّب ردود فعل قوية .
- الدولة تمر بمرحلة في غاية الحرج في ظل تنامي الفجوة بين نمو حجم النفقات العامة الواردة في الميزانية وبين حجم الإيرادات المحصلة .
- عدم وجود قدرة الدولة بالوفاء بالتزاماتها المالية الواردة بالموازنة العامة الا عبر توفير مصادر لتمويل هذا العجز سواء ذاتية او غير ذاتية .
- ضرورة معالجة أوجه الاختلالات في السياسات المالية المتبعة بالدولة من خلال التفكير جديا باتخاذ قرارات سريعة تتسم بالموضوعية .
- أوجه الاختلالات في السياسات المالية وصلت نتائجها الى مرحلة متقدمة تتطلب إجراءات اشبه الى ما تكون الى اجراء عمليات جراحية كبيرة ودقيقة بالسياسة المالية للدولة.
- معالجة الاختلالات بالسياسة المالية مسئولية مشتركة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية و القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني .
- يجب ان يتم التعامل مع المواطن بكل شفافية ومصداقية بشان البيانات المالية لأقناعه بانه شريك حقيقي في مسيرة الإصلاح .
- المشرع اكد على مبدا الشمولية في اعداد الموازنة العامة للدولة من حيث إيراداتها ومصروفاتها بما يكفل اظهار المركز الحقيقي للدولة.
- مدى اتساق او تعارض احكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 و المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 لأحكام الدستور في الشأن اعداد الموازنة العامة للدولة ؟
- مسئولة لجنة الميزانيات والحساب الختامي بمجلس الامة في النظر في البيان عن الحالة المالية للدولة التي تقدمة الحكومة للمجلس عند مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة .
ما ان تم الاعلان عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2020/2021 والمؤشرات الخاصة بتلك الموازنة وعلى وجه التحديد العجز المقدر في تلك الموازنة البالغ 9.2 مليار دينار ، حتى توالت ردود الفعل القوية تجاه هذا المؤشر ، وقد زادت حدة ردود الفعل عندما تم تناول الكيفية التي سيتم معالجة هذا العجز المتوقع ، والتدابير والإجراءات الاصلاحية التي سيتم اتخاذها لمعالجة الاختلالات في المالية العامة والتي تهدف الى إيجاد التوازن بين المصروفات والايرادات وصولا الى تحقيق الاستدامة في نمو الإيرادات لتغطية النفقات الحكومية .
وعلى الرغم من ان مثل هذا العجز الذي تم الإعلان عنه في مشروع الموازنة تلك لم يكن الأول من نوعه، حيث تكرر الإعلان عنه في السنوات الماضية، مع تكرار ذات الإجراءات الإصلاحية المقترحة لمعالجته، الا ان لأول مرة نرى مثل تلك ردود الفعل الحادة ومظاهر السخط من الإجراءات المتوقعة من مؤشرات تلك الموازنة .
ولا اعتقد احد يختلف بان الدولة تمر بمرحلة في غاية الحرج في ظل تنامي الفجوة بين نمو حجم النفقات العامة الواردة في الميزانية وبين حجم الإيرادات المحصلة ، الامر الذي يترتب عليه عدم وجود قدرة لدى الدولة بالوفاء بالتزاماتها المالية الواردة بالموازنة العامة الا عبر توفير مصادر لتمويل هذا العجز، وذلك يكون اما ذاتيا من خلال السحب من الاحتياطي العام واذا استنفذ سيكون السحب من احتياطي الأجيال القادمة ، او من خلال موارد غير ذاتية من خلال الاقتراض من المؤسسات المالية .
وهذا بالتالي يستوجب ضرورة معالجة أوجه الاختلالات في السياسات المالية المتبعة بالدولة من خلال التفكير جديا باتخاذ قرارات سريعة تتسم بالموضوعية ، وفي رايي بان أوجه الاختلالات في السياسات المالية وصلت نتائجها الى مرحلة متقدمة تتطلب إجراءات اشبه الى ما تكون الى اجراء عمليات جراحية كبيرة ودقيقة بالسياسة المالية للدولة ، بعد ما كانت بالسابق تتطلب الى إجراءات بسيطة وذلك بسبب التأخر في إقرار التدابير المناسبة لمعالجة تلك الاختلالات لأسباب كثيرة.
كما ان ومن جانب أخرى لا يستوجب بان يتم التفكير في تبني إصلاحات مالية فقط بمجرد ظهور عجز بالموازنة العامة للدولة ، وعند حدوث الوفورات في الموازنة لا يتم إيلاء الاهتمام بالإصلاحات المالية ، حيث ان الحصافة في إدارة المالية العامة للدولة مطلوبة بغض النظر كان هناك عجز او وفر بالموازنة العامة للدولة ، لان هذا هو أساس الحوكمة بالإدارة المالية للدولة والتي تأخذ بعين الاعتبار التخطيط بعيد المدى .
لذلك يتطلب الموضوع اهتمام بالغ من كافة الأطراف ذات الصلة ممثلة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية و القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني ، ومن الأهمية اشراك المواطن في هذا الامر باعتباره هو الشريك الرئيسي في مسيرة الإصلاح المالي والاقتصادي ، وحتى يكتب النجاح لمشاركة المواطن في عملية الإصلاح ، يتطلب ان يتم التعامل معه بكل شفافية ومصداقية بشان البيانات المالية لأقناعه بانه شريك حقيقي وقادر على تحمل المسئولية المشتركة ، ويجب ان لا نغفل بان المواطن هو ركيزة النجاح في أي مسيرة إصلاح قادمة .
وتبدا تلك المشاركة من خلال توضيح الصورة للمواطن بحقيقة العجز المالي الذي تم الإفصاح عنه مؤخرا عند الاعلان عن مشروع الموازنة 2020/2021 ، وان لا يترك الامر لاجتهادات الاخرين وتأويلاتهم التي أصابت المواطن بالحيرة في امره في شان ما هيه حقيقة العجز في الموازنة ، فالبعض افاد بان هذا عجز دفتري وليس حقيقي ، آخرين أفادوا بان هذا عجز تقديري لكن في نهاية السنة المالية سيتضح حجم العجز الحقيقي ، وذهب البعض الى القول بعدم مصداقية الموازنة لعدم شمولها كافة الإيرادات إشارة الى إيرادات الاستثمار ، او عدم تضمينها فائض ايرادات بعض الهيئات العامة ، وهناك من اشار بان عدم مصداقية الموازنة تعود الى تضمينها لنفقات لا تمثل نفقات حقيقية ، وغيرها من الاجتهادات والتأويلات .
ولعل القارئ عندما يقرا عنوان هذا الموضوع ( حقيقة العجز في الموازنة العامة للدولة ) يتوقع مني بان اجيبه على هذا السؤال بشكل مباشر في كتابتي لتلك السطور ، لكن في حقيقة لا استطيع ان اجيب على هذا السؤال ، وهذا لا يعني بانني املك المعلومة و لا اريد الإفصاح عنها ، لكن بسبب تعقد الموضوع لتعدد الأطراف المعنية بتلك المعلومة نتيجة لتعدد التشريعات التي تنظم الشئون المالية بالدولة وتعدد جهاتها .
لذلك سأحاول بشكل او باخر بان أوضح تلك التشريعات التي يمكن ان نستخلص منها بعض الإجابات على تسائلنا هذا .
فقبل صدور دستور دولة الكويت صدر مرسوم اميري رقم 1 لسنة 1960 بشان قواعد اعداد الميزانية العامة والرقابة على تنفيذها والحساب الختامي ، وقد جاءت رغبة المشرع في اصدار هذا التشريع وفقا لما اشارت اليه المذكرة الإيضاحية للمرسوم الاميري بان المرسوم يهدف الى وضع قواعد ثابتة لإعداد ميزانية الدولة والحساب الختامي وللرقابة على تنفيذ الميزانية ، ويرى المشرع بان تلك القواعد استخلص اكثرها من التجارب التي مرت بها إدارة المالية ( تقوم مقام وزارة المالية في وقتنا هذا ) ، وكشف العمل على صلاحيتها ، ودلت الحاجة الى وجوب تقنينها لتكون قواعد مستقرة تلزمها إدارة المالية والدوائر المالية الأخرى ، لتقوم الميزانية العامة على أسس ثابتة ، حيث يرى المشرع هذا الامر من الأمور ذات الأهمية الكبرى في السياسة المالية للدولة .
وقد أشار المرسوم الاميري بان تشتمل الميزانية العامة للدولة على جميع الإيرادات المقدر تحصيلها وجميع المصروفات المقدر انفاقها بواسطة الدوائر الحكومية ومصالحا في السنة المالية ، كما أشار القانون بانه يخصم من مجموع الإيرادات المقدرة نسبة مئوية تحدد كل سنة بمرسوم لتضاف الى الاحتياطي على ان يحدد القانون طرق استثمار المال الاحتياطي وكيفية التصرف به ، وقد كلف المرسوم الاميري إدارة المالية بإصدار التعليمات والقواعد الواجب اتباعها من الدوائر الحكومية في اعداد الحساب الختامي ومشتملاته والتي تكفل اظهار المركز الحقيقي للدولة في نهاية السنة المالية .
ثم جاء دستور دولة الكويت الصادر في 11/11/1962 حيث أكد في مادته 140 على مبدا الشمولية ، وذلك بان تعد الدولة مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها وتقدمه إلى مجلس الأمة قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل، لفحصها وإقرارها ، على ان تصدر الميزانية العامة بقانون وفقا للمادة 144 ، هذا وقد الزم الدستور الحكومة بان تقدم الى مجلس الأمة بيانا عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاده العادية وفقا للمادة 150 .
وفي تاريخ 28/11/1976 صدر المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشان احتياطي الأجيال القادمة ، والذي بموجبه تقرر بان يستقطع سنويا نسبة 10% من الإيرادات العامة تودع بحساب خاص يسمى احتياطي الأجيال القادمة ، وتستثمر وزارة المالية تلك الأموال، وتضاف عائد استثماراتها الى هذا الحساب ، ولا يجوز خفض النسبة او اخذ أي مبلغ من هذا الاحتياطي ، وقد تولت لاحقا الهيئة العامة للاستثمار إدارة استثمار الاحتياطي العام والأموال المخصصة لاحتياطي الأجيال القادمة وذلك بموجب قانون انشائها رقم 47 لسنة 1982 ، وقد جاء تأسيس الاحكام التي صدر بموجبها هذا المرسوم بقانون وفقا للمادة 140 من الدستور بشان اعداد الدولة لمشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها ، وتقدمه إلى مجلس الأمة قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل لفحصها وإقرارها .
ثم صدر المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشان قواعد اعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي والذي أيضا نص على ان تشتمل كل ميزانية عامة على جميع الإيرادات المقدر تحصيلها وجميع المصروفات المقدر إنفاقها في السنة المالية ، كما نص على ان تحدد من جملة الإيرادات المقدرة نسبة مئوية تضاف الى احتياطي الأجيال القادمة ، ويضاف الى المال الاحتياطي العام صافي الإيرادات الناتجة عن استثماره وإيرادات الأموال الأخرى المستثمرة بعد أن يقتطع من ذلك النسبة المئوية المقرر إضافتها الى احتياطي الأجيال القادمة .
ويتضح من السرد السابق جوانب مهمة ومرتكزات تشريعية تأّطر الشئون المالية بالدولة وبالأخص المتعلقة بالموازنة العامة للدولة والمركز المالي للدولة ، فالمشرع في المرسوم الاميري رقم 1 لسنة 1960 اكد على مبدا الشمولية في اعداد الموازنة العامة للدولة من حيث إيراداتها ومصروفاتها بما يكفل اظهار المركز الحقيقي للدولة في نهاية السنة المالية وذلك عند تنفيذ تلك الموازنة واعداد الحساب الختامي للدولة ، حيث كانت إيرادات الدولة ترتكز على مورد أساسي وهو النفط ، الا ان مبدا الشمولية بالمرسوم جاء معيبا وذلك بسبب النص على استقطاع نسبة من جملة الإيرادات .
وقد أكد المشرع على نفس مبدا الشمولية في احكام الدستور وبمفهومها الصحيح عندما نص على ان تعد الدولة مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها، مع الزام الحكومة بان تقدم الى مجلس الأمة بيانا عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاده العادية.
الى ان جاء المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشان احتياطي الأجيال القادمة، والذي استثنى عوائد حساب هذا الاحتياطي من إضافته الى إيرادات الموازنة العامة الامر الذي اخل في وجهة نظري بمبدأ الشمولية في الموازنة العامة للدولة في هذا الشأن ، وجاء أيضا هذا الاخلال بالمبدأ في المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشان قواعد اعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي، حيث نص على تحديد نسبة مئوية تضاف الى احتياطي الأجيال القادمة من جملة الإيرادات المقدرة ، وان قيمة تلك النسبة يتم استقطاعها من الإيرادات من خلال ادراجها ضمن النفقات ، وهي في حقيقة الامر ليس بنفقات فعلية ، هذا على الرغم من ذات المرسوم قد اكد على مبدا الشمولية في مادته الأولى .
فعودة الى تساؤلنا فيما اذا كان العجز المعلن هو عجز حقيقي ام غير حقيقي ، فالإجابة على هذا التساؤل له اكثر من زاوية ، ففي اطار احكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 و المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 ، فان ما تم الإعلان عنه من عجز في الموازنة العامة للدولة من حيث الشكل يتسق مع احكام هذين المرسومين بقانون ، وهو عجز تقديري يتضح دقة حجمه في نهاية السنة المالية المعنية 2020/2021 وفقا للإيرادات والنفقات الفعلية الذي يعكسه الحساب الختامي للدولة ، حيث ان الموازنة اعدت وفقا لأحكامهما ، مع الاخذ بعين الاعتبار بان تلك الاحكام لا تعبر عن المركز المالي الحقيقي للدولة ،وعلى الرغم من ان تلك التشريعات مراسيم بقوانين الا ان مجلس الامة هو من اقر تلك التشريعات من خلال المصادقة عليهما لصدورهما في فترة غياب مجلس الامة .
اما اذا نظرنا للموضوع من زاوية احكام الدستور وعلى وجه التحديد المادة 140 منه ، فان العجز في وجهة نظري غير حقيقي لأنه تم اعداد الموازنة العامة للدولة بما لا يتسق مع احكام المادة المشار اليها بشان الالتزام بإعداد الدولة لمشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها ، وذلك لاستثناء شمول الإيرادات لعوائد الاحتياطيات بأنواعها .
مما يطرح هنا تساؤل اخر بشأن مدى اتساق او تعارض احكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشان قواعد اعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي، و المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشان احتياطي الأجيال القادمة لأحكام الدستور في الشأن اعداد الموازنة العامة للدولة. لذا فان الموضوع هذا يتطلب بان يكون تحت نظر المختصين وعلى وجه الخصوص المشرعين في مجلس الامة للتحقق من هذه المسالة ، والخروج بتوصيات من شانها يتم معالجة القصور في تلك التشريعات ، والى ذلك الحين فعلى لجنة الميزانيات والحساب الختامي بمجلس الامة وفقا لاختصاصها والوارد باللائحة التنفيذية للمجلس بان تمارس دورا رئيسيا في هذا الشأن من النظر في البيان عن الحالة المالية للدولة التي تقدمة الحكومة للمجلس عند مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة . ، وبهذا الصدد أتذكر في بدايات الثمانينات من القرن الماضي وان لم تخونني الذاكرة عندما كنت في المملكة المتحدة اطلعت عدد مجلة (The Economist) ولا استطيع ان استحضر رقم العدد لكن كان غلاف العدد مميز ، ومفاده بان دولة الكويت تستطيع ان تغطي نفقات الميزانية من خلال عوائد الاستثمار فقط ودون اللجوء الى مبيعات النفط .