صحيفة الانباء 18 اكتوبر 2020
من خلال ما تطرقت له في مقالات سابقة من موضوعات تتعلق بالشأن المالي للدولة، قد اثارت تساؤلات لدى البعض حول مدى علاقة ما اتناوله من مسائل مالية وعلى وجه التحديد الرقابة المالية بالموضوعات القانونية التي كنت اثيرها في سياق تلك المسائل ، ولعل أرى من المناسب الرد على تلك التساؤلات والتي أرى انها مستحقة وواجبة التوضيح للقارئ.
يرتكز عمل الرقابة بوجه عام والرقابة المالية بوجه خاص على قاعدة جوهرية، وهي التحقق من مدى اتساق التصرفات المالية مع الإجراءات المنظمة لها ، وكما هو متعارف عليه من الجانب القانوني ان الإجراءات المنظمة تأتي من مصادر متعددة بشكل هرمي تبدا من راس الهرم المتمثل بالدستور وتتدرج الى القوانين والمراسيم ثم اللوائح والقرارات والتعاميم التي تصدر وفقا لأداتها القانونية .
فاذا لم يكن الموظف الفني ملم بشكل كامل بتلك التشريعات المنظمة للشئون المالية ،فانه لن يستطيع ان يبدي رايا فنيا سليما في المسائل التي تعرض عليه، ومن المؤكد ان يكون رايه في أي مسالة تعرض عليه رايا غير سديدا .
وما يؤكد على ان العمل الرقابي والقانوني مكملين بعضهم البعض هو ما ذهب اليه المشرع في قانون انشاء ديوان المحاسبة ، حيث جاء في المذكرة الايضاحية للقانون الاتي ( … وقد روعي في ذلك ان الاعمال التي يباشرها الديوان وفقا لاختصاصاته المبينة بهذا المشروع ، انما تقوم على ثقافتين ذات مستوى عال ، احدهما قانونية والأخرى حسابية ، وان هاتين الثقافتين تكمل الواحدة الأخرى ، ويتعين اجتماعهما معا لإمكانية ممارسة الديوان لاختصاصاته على الوجه الأمثل ).
ومن ثم فان بناء قدرات الموظف الفني في الجانب القانوني مسالة في غاية الأهمية، فكلما زاد نطاق عمل الموظف الفني من حيث المسئولية الإدارية زادت حاجته الى المعرفة القانونية التي تمكنه من ممارسة اختصاصاته، ومع مرور الزمن تكون لدى الموظف الفني حصيلة غنية من المعرفة القانونية.
وعلى المستوى الشخصي وعلى مدى ما يزيد عن 30 عاما في مجال الرقابة المالية ،ومن خلال عدد من المناصب الإدارية التي كلفت بها بخلاف المشاركات في اللجان والفرق العمل المتخصصة و التمثيل في عضوية عدد من المؤسسات المحلية والإقليمية، تعامل مع العديد من التشريعات المختلفة التي تتطلبها طبيعة العمل والتكليفات ،مما تكونت لدي موسوعة زاخرة من الالمام المعرفي في مجال القانون، وقد مكنتني تلك المعرفة في الدخول بحوارات جدلية مع مشرعين قانونيين في العديد من المسائل وفي مناسبات عديده ، وسوف اكتفي بذكرة تجربة واحدة فقط في هذا السياق تدليلا على ذلك .
نظرا لدراستي لقانون انشاء هيئة مكافحة الفساد رقم 24 لسنة 2012 ( الملغي بحكم المحكمة الدستورية ) ، فقد اثرت مسالة تتعلق بما جاء بالمادة 19 من المرسوم بقانون انشاء الهيئة والمتعلقة بمنح سلطة خاصة لرئيس الهيئة تتعلق باختصاصات وزير المالية ،حيث نصت المادة على الآتي ( لرئيس الهيئة الاختصاصات المخولة لوزير المالية ، ولمجلس الأمناء الاختصاصات المخولة لديوان الخدمة المدنية فيما يتعلق باستخدام الاعتمادات المقررة بموازنة الهيئة وتنظيم أعمالها وشئون موظفيها ).
ونظرا الى ان المشرع قد نسخ هذا الحكم من قانون انشاء ديوان المحاسبة مع بعض التعديل الامر الذي وقع به المشرع بخطأ تشريعي فادح ، حين منح رئيس هيئة مكافحة الفساد اختصاصات وزير المالية بشكل مطلق وليس محدد كما هو مشار اليه في قانون انشاء ديوان المحاسبة ، مما تسبب المشرع في مد سلطة رئيس هيئة مكافحة الفساد إلى اختصاصات وزير المالية في كافة التشريعات ذات الصلة بدور واختصاص وزير المالية في موضوعات تلك التشريعات.
هذا ولم يستطع الجهاز القانوني بوزارة المالية البت في تلك المسالة التي تمت اثارتها من قبلي ، حيث تم إحالة الموضوع الى إدارة الفتوى والتشريع لاستفتائها في هذا الامر ، ونظرا لصحة ما تم اثارته من قبلنا فقد تدارك المشرع هذا الخطأ التشريعي لاحقا عند صدور القانون الجديد لهيئة مكافحة الفساد رقم 2 لسنة 2016 ، حيث تم مراعاة تعديل المادة 19 بما يتفق مع تلك الملاحظة التي تمت اثارتها ، وجاء نص المادة بعد التعديل على النحو الاتي ( لرئيس الهيئة الاختصاصات المخولة لوزير المالية بشان استخدام الاعتمادات المالية المقررة بموازنة الهيئة ولمجلس الأمناء ممارسة الصلاحيات المقررة لديوان الخدمة المدنية فيما يتعلق تنظيم اعماليها وشئون موظفيها ).
ختاما ارجوا ان ما ذكرته في تلك المقالة كافي بالرد على التساؤلات التي تتعلق بمسالة حق الموظف الفني المكلف بالرقابة المالية بان يتناول الجوانب القانونية في قضايا الرقابة المالية.